الخميس، 8 أغسطس 2019

المشاركة المواطنة

إن دراسة معمقة لتاريخ الفكر السياسي توضح بشكل جلي أن المحور المركزي الذي تأسست عليه الدراسات المختلفة التي همت تطور الأفكار السياسية عبر التاريخ البشري الطويل و ما أسفرت عنه من إنتاج لمنظومات قانونية و أنظمة سياسية كان هو العنصر البشري ممثلا في المجتمع كعنصر أساسي للدولة باعتبارها الكيان الذي تنضوي تحت لوائه كل الظواهر السياسية الأخرى، و لعل السؤال الإشكالي البديهي الذي حدد المنطلقات الأساسية للدراسات السياسية في شكل الأنظمة هي العلاقة بين الحاكم و المحكوم ، بين ممثل السلطة القائم على ممارستها و بين الشعب و مدى مشاركة أفراده في تسيير دولاب الدولة و الحكم. فإذا اتفقنا على أن دور السلطة و النظام السياسي عموما هو تلبية الحاجيات العامة للشعب على اختلاف أنواعها فإن السؤال المطروح بحدة هو مدى قدرة السلطة سواء أكانت ممثلة في فرد أم في مؤسسات على تحديد الحاجيات العامة و السبل الأفضل لتحقيقها و بالتالي توافر الرضاء العام الذي يشكل اللبنة الأساسية في الاستقرار السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي، و هل الأنظمة الأكثر استقرارا هي تلك القائمة على أساس المشاركة أم الاستبداد؟ و نحن نورد المشاركة في مقابل الاستبداد على اعتبار أن المشاركة السياسية للمجتمع هي أساس و تجلي للديمقراطية كنظام سياسي يحقق الدرجة القصوى من الرضاء العام عكس النظام الاستبدادي الذي ساد المجتمعات بدرجات متفاوتة. فلما كان الإنسان اجتماعي بطبعه، فقد عاش دائما في ظل الجماعة البشرية، فهذه الحياة الجماعية للأفراد هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن من تحقيق الحاجيات العامة لكون الفرد لا يمكنه تلبية احتياجاته بمفرده، لذلك كانت الحياة الجماعية طبيعة إنسانية لا تستقيم الحياة، بل تستحيل بدونها. غير انه إذا سلمنا بحتمية الحياة الجماعية لأفراد المجتمع، فهذا لا يعني بالضرورة انصهار الأفراد في بوثقة واحدة، فالحياة الاجتماعية و إن كانت تقوم على أساس التضامن و التكافل و التعاون إلا أنها تبقى تتسم بصراع المصالح الفردية و الجماعية على حد سواء، هذا الصراع كان لابد له من قواعد تحكمه وتحافظ على التوازن الضروري بين المصالح الفردية و الجماعية داخل المجتمع، فتلك القواعد التي تطورت من الأعراف إلى القوانين بمفهومها الحديث لم تكن لوحدها كافية لضبط الحياة الاجتماعية، فلابد لتلك القوانين من سلطة عامة تخضع كافة أفراد المجتمع إلى تلك القوانين و تنزل العقاب على من يخالفها فهذه السلطة العامة هي التي تجسدت في خضم التطور البشري في مفهوم الدولة بأركانها و ضوابطها. إن الدولة باعتبارها حارسا للنظام العام، ضامنة لتمتع أفراد المجتمع بحقوقهم الطبيعية في إطار من الضبط و النظام القانوني، عرفت تطورا عبر مراحل تاريخها، و كل مرحلة تاريخية كانت تتسم فيها الدولة بطابع يميزها عن مرحلة أخرى، و هذا ما يبرر تعدد الأنظمة و طبائع الدول " الدولة التي بنيت على أساس الحق الإلهي ... إلى الدولة الديمقراطية التي تتيح للشعوب إمكانيات المشاركة السياسية في تدبير دولاب الدولة و تشريع القوانين استنادا إلى نظام تمثيلي لفئات المجتمع المختلفة". و رغم أهمية الديمقراطية التمثيلية و ما تقدمه من خدمات جليلة للإنسانية إلا أنها تبقى قاصرة عن التعبير عن طموحات و انتظارات الشعوب نظرا لكلاسيكية الآليات التي تعتمدها و التي لم تحقق مشاركة فعالة للشعوب في تشريع قوانينهم و المساهمة في تحديد خيارات أوطانهم و السياسات العامة لحكوماتهم، و قد نحت الديمقراطية في أواخر القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين منحى غير متناهي الأهمية يتمثل في تجديد الديمقراطية لآليات تلك المشاركة الشعبية حتى اصطلح المفكرون و المنظرون السياسيون عليها بالديمقراطية التشاركية في مقابل الديمقراطية التمثيلية أو النيابية، و رغم جنينية الديمقراطية التشاركية بالمقارنة مع الحقب و الأزمنة التي بلورت مختلف الأنظمة السياسية التي عرفتها الشعوب إلا أنها أنتجت العديد من المفاهيم و الآليات التي تكفل المشاركة الشعبية في تدبير الشأن العام في مختلف المجالات، هذه المفاهيم و هذه الآليات رغم أهميتها إلا أنها عرفت تفسيرات مختلفة باختلاف الزوايا التي ينظر منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق