الخميس، 8 أغسطس 2019

مقدمة حول الإدارة والسياسة


يبدو جليا من خلال العنوان ذاته مدى الاتصال القائم بين الإدارة والسياسة على غرار ما كان رائجا من اتصال الفلسفة بالدين من حيث سعي كلاهما إلى الحقيقة، بالقدر الذي تسعى فيه السياسة والإدارة إلى تحقيق الصالح العام من خلال سياسة المقدرات  والإمكانات المتاحة للمجتمع وتدبيرها من خلال الإدارة.
ولما كان الهدف المشترك الذي تصبو إليه السياسة والإدارة محددا في الصالح العام مع ما يتفرع عنه من أنشطة وممارسات، فإن أوجه الترابط والاتصال بين المكونين يبقى مبررا ومشروعا، غير أن هذا الترابط والاتصال لا يرقى إلى المستوى الذي تنصهر فيه الإدارة بالكلية فيما هو سياسي، بل لا يتعدى ذلك كون الإدارة هي الأداة التنفيذية التي من خلالها يتوخى السياسي بلورة تصوراته ومخططاته على أرض الواقع.
فإذا كان الاتصال بين الإدارة والسياسة مبررا ومشروعا، فهل الدعوة إلى فصل المكونين عن بعضهما تجد هي أيضا مبرراتها ومشروعيتها؟
إن الباحث لا يجد أية مغالاة في الجواب بنعم على هذا السؤال، ذلك أن علاقة الإدارة بالسياسة قد تناولتها ثلاث أطروحات رئيسية تتمثل بحسب ما يطرحه الدكتور حسن العرافي في:
1-  الأطروحة القائمة على مبدأ تبعية الادارة للسياسة
2 -  الأطروحة القائمة على مبدأ الفصل المطلق بين الادارة و السياسة
3 -  الأطروحة القائمة على مبدأ التكامل بين الادارة و السياسة
     فالأطروحة الأولى بحسب نفس المصدر تفقد الإدارة خصائصها ومكانتها من منظور علم الإدارة، على اعتبار أن الموظف الذي يوضع رهن إشارة المواطن؛ لخدمته؛ لا يتمكن من ممارسة مهامه  بحرية كافية، لأن مجرد إحساسه بتبعيته للرئيس الإداري الأعلى بالقطاع يفقده «الاستقرار النفسي»، ويزداد الأمر حدة على مستوى الجماعات الترابية على حد تأكيد الأستاذ "حسن العرافي"، وقد عبر عن هذا التصور  في مفهوم «مَوْظفة الدولة» الذي يؤدي بدوره إلى مفهوم «تسييس الإدارة».
  أما الأطروحة الثانية و القائلة "بالفصل المطلق بين الإدارة و السياسة"، مصدرها الفصل بين السلطات الذي نادى به "مونتسكيو" في القرن الثامن عشر (عصر النهضة الأوربية). ويقوم تبرير هذه الأطروحة على أن الادارة عندما يصبح لها توجه سياسي فإنه يؤثر سلبا على حياديتها، ومن تم يتغير توجهها بتغير السياسي القائم على إدارة أمورها. و نتيجة لذلك تظهر التبعية وويلات للإدارة ذهب ضحيتها المواطن، حسب تصور الأستاذ "حسن العرفي"،  ويعتبر الفصل التام بين الإدارة و السياسة، أنها مسألة مُعابة من وجهة نظر أنها لا تعتمد فصلا دقيقا ومنطقيا بين المكونين، وأنها لا تأخذ بعين الاعتبار  تأثير القوى الاجتماعية داخل البلد. وخلص إلى أنه في جميع الأحوال والحالات لا يمكن تصور حكومة بدون آلة تنفيذية.
وبالنسبة للأطروحة الثالثة  القائمة على أساس "التكامل بين الادارة و السياسة"، فتنطلق من نظرية نفي وجود تبعية مطلقة ولا فصل مطلق بين الإدارة و السياسة، وأساس ذلك أن الإدارة لا يمكن تصورها بمعزل عن محيطها و بيئتها. ومن ثم طرح إشكالية حقيقية حول مدى وإمكانية تصور تركيبة سحرية لتحقيق توازن بين الأطروحتين، لأن تأثير السياسة على الإدارة له آثار سلبية على دواليب الدولة، و يرى الدكتور العرافي في التجربة الفرنسية ما قبل الثورة الفرنسية و التي عرفت خلق نظام ريعي في بيع المناصب الإدارية، نموذجا يؤكد أن هذه التبعية المطلقة تؤدي حتما إلى الانتقال من مفهوم الفساد السياسي إلى مفهوم الفساد الاداري. ففي ظل التبعية الإدارية لما هو سياسي، يفقد الموظف صفته الحقيقية ليصبح-فقط- أداة لتنفيذ الإرادة السياسية.
كما يحيل الدكتورحسن العرافي إلى واقع الجماعات الترابية في المغرب كنموذج حي لفهم مدى هيمنة السياسي على الإداري، حيث يظهر بجلاء أن رؤساء المجالس الجماعية "للأسف" يضعون تصورات وقراءات سياسية للهياكل الإدارية للجماعات التي يشرفون على تدبير شؤونها، مما يجعل اللمسات السياسية تطغى أكثر من سواها على القرارات الإدارية المحلية، التي ينبغي أن تنبني بالضرورة على معايير واقعية، وكذلك تسخير ميزانياتها التي هي عبارة عن أموال عمومية لخدمة مصالح  سياسية و التضحية بمعايير الجودة و المردودية لصالح الاعتبارات الحزبية و الإنتخابوية. فتكون نتيجة ذلك ذات آثار سلبية حتما، لأنه يتم الانتقال من مفهوم الفساد السياسي إلى مفهوم الفساد الإداري الذي لا يمكن تصور نمو الحكامة تحت وطأته. و لعل السياسات العمومية المختلفة الرامية إلى تخليق  الحياة العامة هي نتيجة تلك العلاقة المتوترة ما بين الإدارة و السياسة بل وهيمنة هذه الاخيرة على الأولى.
     ومن مظاهر "النظرية الإنقسامية"، التي ترتكز على هيمنة التوجهات الحزبية و الانتمائية، أورد لنا "الأستاذ حسن العرافي " مثالا على الولوج لبعض المناصب في بلادنا، خاصة في بعض المؤسسات العمومية بحد ذاتها، التي تعتمد ميزا انتمائويا عرقيا واضحا (مثال وزارة البريد سابقا)، مما يضرب في العمق المبدأ الدستوري القائم على مساواة الجميع أمام تقلد المناصب بالإدارات العمومية. 
أما الظاهرة النقابية في بلادنا، فيضيف "الاستاذ العرافي"، بأنها لا تقل أهمية نموذجية في هذا السياق، فمعظم النقابات الموجودة حاليا في المغرب ذات امتدادات سياسية و حزبية، حيث يتم احتضانها من لدن الأحزاب  التي تبدو متعاطفة مع الملف المطلبي للشغيلة، لتصبح هذه  النقابات مرتعا خصبا لنمو اديولوجية تلك الأحزاب. وبالتالي تطغى كل الاعتبارات الضاربة في العمق "مبدأ الحيادية الإدارية أو "الحيادية الوظيفية" إن صح القول.
   وأشار الأستاذ العرافي إلى أهمية الدستور المغربي الجديد في تكريس أطروحة التكامل بين السياسة و الإدارة حينما جعل الادارة رهن إشارة الحكومة (الفصل69  من الدستور)، وتطرقه في نفس الوقت لمفهوم "التدبير الحر"(الفصل 149 من الدستور). كما أدلى في هذا النطاق، على سبيل الاستفهام الاستنكاري، بأمثلة عن بعض القطاعات الحكومية التي ترتبط بأدائها الإداري الصرف رغم أنها جزء لا يتجزأ من الحكومة (الامانة العامة للحكومة، المندوبية السامية للتخطيط ، والي بنك المغرب وغيرها). ولتحقيق هذه الغاية (التناغم بين الادارة والسياسة) طرح الاستاذ العرفي مجموعة من المتطلبات، يمكن إيراد البعض منها كما يلي:
       *الإيمان بأن الموظف له حقوق سياسية و نقابية ؛
       *عدم القيام بتحريات في الآراء السياسية فيما يتعلق بالتوظيفات الادارية؛
       * استبعاد الخلفيات السياسية في التعامل مع الموظفين و الأطر داخل الإدارة؛
       * يجب عدم هدر حقوق الموظف، لأن هيبة الدولة من هيبة الإدارة و هيبة الادارة من هيبة الموظف ([1]).
ان فصل الادارة عن السياسة يؤدي الى استقرار التنظيم الداخلي للمؤسسة والذي يولد شعورا لدى كافة افراد التنظيم بحصانة المؤسسة، هذا الشعور الذي يتحقق من خلاله الامان والاستقرار الوظيفي وتصبح الادارة قادرة على مواجهة الصراعات البسيطة والمعقدة من اجل ضمان سلوكيات الافراد والجماعات داخل التنظيم وتامين كفاءة وفاعلية الاداء التنظيمي . اضافة الى تمكين ذوي الاختصاص في مجال الادارة من ادارة هذه المؤسسات وفق نظرة علمية تتضمن مجموعة من المبادئ الفكرية الثابتة والقوانين العلمية التي تميزها عن غيرها من العلوم
إن ما نعايشه من تمازج السياسي بالإداري يجعلنا نطرح مسألة تقييم الأداء المنبثق عن تلك العلاقة، و هل يرقى ذلك الأداء إلى انتظارات المواطنين؟ و هل يجعل من المناخ السائد داخل الأجهزة الإدارية ما يثير الدوافع الوطنية و القدرات العلمية و الميول الإبداعية لدى العاملين في تلك الأجهزة؟
إن المشرع الدستوري المغربي يجعل الإدارة موضوعة تحت تصرف الحكومة([2]) لتنفيذ سياساتها، و هذا الموضع الذي تأخذه الإدارة بحسب القانون المؤسس يجعل ارتباطها بالسياسي أمرا لا محيذ عنه، غير أن هذا الارتباط لا يعني بأي حال من الأحوال هيمنة السياسي على الإداري و بالتالي هيمنة السياسة على الإدارة، فكلاهما علم منفصل عن الآخر له ظواهره التي يدرسها و قوانينه التي يستخلصها من الدراسات العلمية  الممارسات التجريبية، و في هذا السياق يرى أحمد الشحات أن "الإدارة علم منظم له قواعده ومبادئه وخطوطه العريضة وإجراءاته المعروفة ، فضلاً عن الخبرة الطويلة في تطبيقاته ، والممارسة العملية له في كثير من المجالات والأماكن ، أما السياسة فهي فن يعتمد على الخبرة والممارسة أكثر من اعتماده على القوانين والنظم ، والأهم من ذلك فإن المعايير التي تحكم السياسة عادة ما تخرج قليلاً أو كثيراً عن نطاق التشريعات واللوائح والنظم إلى محددات أخرى تتوقف على مدى التواؤمات والظروف وتخضع للمتغيرات والمستجدات بشكل دائم مستمر"([3]).
و حقيقة الأمر، أن المطالبة بفصل الإدارة عن السياسة بدأ منذ القرن 19 على يد العديد من المفكرين في مجال العلوم الإدارية و على رأسهم "ودرو ويلسون" الذي يعد الرائد الأول لحقل الإدارة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية،  بحيث عبر في مقالته المعنونة (دراسة الإدارة) عام 1887 عن مطالبته بقيام حقل مستقل للإدارة العامة و بضرورة الفصل بين السياسة و بين الإدارة العامة اعتبارا لكون الخلط بينهما يقود إلى الفساد، كما أن المسائل الإدارية ليست بالضرورة مسائل سياسية، فالسياسة و إن كانت تقرر للإدارة مهامها، إلا أنها لا تنفذها بنفسها([4]).


([1]) حسن العرافي، الحكامة العمومية بين الإدارة و السياسة، الدرس الافتتاحي الأول، منتدى الباحثين في العلوم الإدارية و المالية، كلية الحقوق أكدال، الرباط، 23\11\2012. http://tadbir3omoumi.blogspot.com/2015/04/blog-post_27.html
([2]) الفصل 89 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011.
([3]) أحمد الشحات، فروق هامة بين الإدارة و السياسة، مقال منشور في موقع:"أنا سلفي"، http://www.anasalafy.com/play.php?catsmktba=48814
([4]) صلاح الدين الهيتي و نعمه عباس الخفاجي، تحليل أسس الإدارة العامة "منظور معاصر" دار الياوزري العلمية للنشر و التوزيع، عمان، 2009، ص 29.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق