الخميس، 8 أغسطس 2019

المرفق العام بالمغرب ما بين شعار "ميثاق حسن تدبير المرفق العام" و شعار"محاربة الفساد من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة"

مقدمة

تقوم مشروعية الدولة على أساس ضمان الحقوق و الحريات لمواطنيها، و لأجل ذلك اضطلعت الدول قديما و حديثا بالعديد من المهام و الاختصاصات التي من خلالها تستطيع ضمان تمتع مواطنيها بحقوقهم و حرياتهم و تلبية احتياجاتهم في مختلف المجالات.
فإذا كان دور الدولة قديما قد انحصر في الأنشطة التقليدية المتمثلة في الأمن و العدل و الدفاع، فإن هذا الدور قد عرف توسعا ملحوظا مع تبني الدولة لأسلوب التدخل في القطاعات الاقتصادية و الاجتماعية بغرض تلبية حاجيات مواطنيها المتنوعة في المجالين.
و من المعلوم أن تدخل الدولة لسد حاجيات المجتمع تكون من خلال مرافق عامة تحدثها لهذه الغاية، و بتعدد مجالات تدخل الدولة تعددت أنواع المرافق العامة حتى ذهب بعض فقهاء القانون العام إلى اعتبار الدولة على أنها عبارة عن مجموعة من المرافق العامة، و اعتبر البعض الآخر كون المرافق العامة هي مدخل تقدم الدولة أوتخلفها مستندين في ذلك إلى تجارب العديد من الدول، ففي الوقت الذي تقدمت فيه دول أمثال اليابان و هولندا بالرغم من افتقارهما للموارد الطبيعية مستندة في مسار تقدمها الاقتصادي و الاجتماعي على أسلوب إدارة مرافقها العامة، نجد دولا غنية من حيث مواردها الطبيعية غير أنها عجزت عن تحقيق الحد الأدنى من التنمية لارتكاز سياساتها العمومية على مرافق عامة تعاني اختلالات عميقة، الشيء الذي دفع المنتظم الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة إلى التركيز على إصلاح و تطوير المرافق العامة لتلك الدول كمدخل لتحقيق الأهداف المرجوة من برامج التنمية الخاصة بها و أساسا لتمويل هذه البرامج من طرف المؤسسات المالية الدولية.
و لم يكن المغرب في منأى عن انتقاد المؤسسات الدولية، و نجد ذلك جليا من خلال تقرير البنك الدولي لسنة 1995 حيث وجه هذا الأخير نقدا لاذعا للمغرب لافتقاره لمرافق عامة قادرة على تحقيق أهداف برنامج التقويم الهيكلي، و قد كان هذا التقرير دافعا إلى اهتمام الدولة بالاختلالات التي تعاني منها المرافق العامة و تبنيها لسياسات عمومية تهدف إلى إصلاح و تطوير تلك المرافق كمدخل لتحقيق الأهداف المرجوة منها.
و كتجسيد لهذه السياسة رفعت حكومة التناوب التوافقي برئاسة السيد عبد الرحمن اليوسفي شعار:"ميثاق حسن تدبي المرفق العام" في حين رفعت حكومة السيد عبد الإله بنكيران شعار:"محاربة الفساد من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة"،
و تكمن أهمية هذه الدراسة في مضامين الشعارين: حيث إن ميثاق حسن تدبير المرفق العام الذي تبنته حكومة التناوب التوافقي برئاسة السيد عبد الرحمان اليوسفي من خلال التوصيف الذي طرحته الحكومة ضمن تصريحها الحكومي لنيل الثقة أمام البرلمان، حيث جاء في نص التصريح الحكومي المذكور: "إن الحكومة ترى في ميثاق حسن التدبير مرجعية ملزمة لأعضائها و مبرزة لمسؤولياتهم، و متضمنة للمنطلقات الأساسية التي يجب أن تنحصر فيها جهود القطاعات الإدارية، من دعم للأخلاقيات و ترسيخ لسلوكيات جديدة في التعامل مع المال العام، و من إشاعة لثقافة جديدة للتواصل داخل الإدارة، إلى غير ذلك من الإجراءات التي لا تتوقف على مراجعة جذرية للنصوص أو الهياكل، بقدر ما هي وليدة انتفاضة من أعماق الدواليب الإدارية لتصويب الأوضاع و إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية بالمرافق العمومية"، ركز على مبدأ التخليق الذي شكل مدخلا رئيسيا لًلاصلاح الإداري،إذ جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الندوة المنظمة سنة 1999 حول دعم الأخلاقيات في المرفق العام، في كون هذه الأخيرة "هي أساس الدولة، تقوم بقيامها وتنهار بإنهيارها"، فالتخليق يعني الشفافية بما تتضمنه من قيم النزاهة و الاستقامة.
في حين ركز شعار حكومة بن كيران على محاربة الفساد الذي يعني في مجمله الانحلال والتلف وسوء استعمال الموقع لمصلحة شخصية وتجاوز المصلحة العامة، ويجسد أيضا انحلال الأخلاق بتعاطي الموظف للرشوة وسوء استخدام السلطة العامة لأغراض شخصية قصد الكسب الخاص، ويعبر في جوهره عن غياب المؤسسة السياسية الفعالة بتغاضيها وعدم قدرتها على مواجهة الاتجار بالوظيفة العامة والتعدي على المال العام، وتعيين الأقارب والأصدقاء في مواقع متقدمة وحساسة في الجهاز الإداري دون كفاءات ودون وجه حق، كما أن الفساد الإداري أصبح يسود ممارسة الأنظمة السياسية وبالتالي أنظمتها الإدارية ومرافقها العامة كيفما كانت درجة وأهمية هذه المرافق الإدارية.
وفي ظل هذه الوضعية فإن الموظف العمومي تحوم حوله تلقائيا كل أنواع الشكوك والتساؤلات حول أخلاقياته الشخصية وحول ممتلكاته الشخصية قبل وبعد الوظيفة العمومية وحول نزاهة سلوكه([1])، مما يستوجب ربط المسؤولية بمبدأي المساءلة و المحاسبة .
فمن خلال مضامين الشعارين يتبين أنهما يستندان إلى مبدأ الحكامة بما يتضمنه هذا الأخير من مبادئ و قيم، فما هي الحكامة؟ و هل يمكن اعتبارها من المبادئ الحاكمة للمرفق العام؟ فإذا كانت كذلك فما هي القواعد القانونية و الدستورية التي تستند إليها؟
و للإجابة على هذه التساؤلات ارتأينا اعتماد الخطة التالية:
المبحث الأول: مفهوم الحكامة و دواعيها
المطلب الأول: مفهوم الحكامة
الفقرة الأولى: تعريف الحكامة
الفقرة الثانية: أسس الحكامة
المطلب الثاني:دواعي الحكامة
الفقرة الأولى: الدواعي اقتصادية و اجتماعية للحكامة
الفقرة الثانية: الدواعي السياسية للحكامة
المبحث الثاني: الإطار القانوني للحكامة
المطلب الأول: المرجعية الدستورية لمبدأ الحكامة
الفقرة الأولى: المبادئ الدستورية المرتبطة بالحكامة
الفقرة الثانية: مقومات الحكامة في دستور المغرب
المطلب الثاني: الحكامة في القوانين المختلفة
الفقرة الأولى: المقومات القانونية لتكريس مبدأ الحكامة
الفقرة الثانية: الآليات العقابية لمحاربة الفساد
خاتمة
و سنعتمد في دراستنا هذه على المنهج التحليلي لتبيان مدى تفاعل المشرع المغربي مع الوضع الدولي و الوطني و مدى انعكاس التشريعات الوطنية على أرض الواقع و هل ترسخت قيم و مبادئ الحكامة كمبادئ حديثة حاكمة للمرفق العام.

المبحث الأول: مفهوم الحكامةو دواعيها

سنتطرق إلى مفهوم الحكامة في المطلب الأول و دواعيها في المطلب الثاني.

المطلب الأول:مفهوم الحكامة

لتحديد مفهوم الحكامة سنتناول تعريفها في الفقرة الأولى ثم نقف على أسسها في الفقرة الثانية.

الفقرة الأولى: تعريف الحكامة

هناك الكثير من التعاريف التي أعطيت للحكامة و الحقيقة أن هذا المصطلح ما زال يعرف تعريفات جديدة و بشكل مستمر و يرجع ذلك لحداثة الحكامة التي لم يتم تداولها إلا في أواخر القرن 19 مع ظهور المقاولة الصناعية، و لم يتم تداوله في الحقل التنموي إلا في ثمانينيات القرن 20 في ارتباطه بمشاريع تحديث و تأهيل المرافق العامة في الدول النامية حيث استعمل لأول مرة سنة 1989 م طرف البنك الدولي حيث أكد هذا الأخير في تقريره على أن أزمة التنمية في إفريقيا هي أزمة حكامة بالدرجة الأولى بسبب فساد النظم السياسية و ضعف التسيير و التخطيط، و عليه تم تعريف الحكامة على أنها "الطريقة التي تباشر بها السلطة إدارة موارد الدولة الاقتصادية منها و الاجتماعية بهدف تحقيق التنمية".
أما الأمم المتحدة فقد عرفتها على أنها:" ممارسة السلطة الاقتصادية و السياسية و الإدارية لتدبير الشؤون العامة على كافة المستويات".
و كما سبقت الإشارة فهناك تعاريف كثيرة تتبناها المنظمات الدولية المختلفة إضافة إلى تعريف الفقهاء، و رغم اختلافاتها البسيطة إلا أنها تكاد تجمع على أن الحكامة هي الإدارة الجيدة للموارد المادية و البشرية لتحقيق التنمية.

الفقرة الثانية: أسس الحكامة

يتبادر إلى الذهن أن الحكامة هي مفتاح التنمية و القضاء على الاختلالات التي تعيق تحقيقها و المتمثلة بحسب كافة التقارير الدولية و الوطنية في الفساد الشيء الذي يتطلب تخليق المرفق العام و محاربة الفساد من خلال المحاسبة، فكون الحكامة هي إدارة جيدة معناه أن هذه الإدارة الجيدة تتضمن الأسس الكفيلة بمعالجة الاختلالات فكيف نفهم ذلك؟ نفهمه من خلال أسس الحكامة التي تعتبر في حد ذاتها معايير لتحديد ما إذا كانت الدولة تطبق الحكامة أم لا، و هذه الأسس هي بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 8 أسس و هي: المشاركة، الشرعية، الشفافية، المحاسبة، الفعالية و النجاعة، المساواة، التوافق، و حسن الاستجابة.
فهذه الأسس كما يتضح كفيلة بجعل المرافق العامة ذات نسق أخلاقي يقطع مع مظاهر الفساد و يضمن تحقيق الأهداف المرجوة دون اختلالات عميقة.

المطلب الثاني:دواعي الحكامة

كما سبقت الإشارة، فالحكامة ظهرت في كنف المؤسسات الدولية التي تعنى بتحقيق التنمية و الاستقرار في بلدان العالم المختلفة، و نظرا لضعف البنية الإدارية في الدول النامية و انغماسها في مختلف المظاهر السلبية أدت بالضرورة إلى فشل البرامج التنموية الممولة من طرف المؤسسات المالية الدولية و ذهاب الأموال الباهضة إلى جيوب الفاسدين عوض تقوية الاقتصادات الوطنية لتأهيلها للانخراط في التجارة الدولية و سداد أصل و فوائد الديون المترتبة عليها، و أمام حتمية التعاون الاقتصادي الدولي اضطرت المؤسسات المالية الدولية إلى تشخيص واقع المرافق العمومية لتلك الدول و أسفرت نتائج دراساتها إلى ضرورة اعتماد مبدأ الحكامة للقطع مع الفساد و تخليق المرافق العامة حتى تكون قادرة على منح الثقة للمواطنين و المستثمرين و الممولين، و قد سعت الدول التي أخذت بهذا النهج إلى تحقيق أهداف تنموية و أخرى سياسية.

الفقرة الأولى: الدواعي اقتصادية و اجتماعية للحكامة

كان الهدف الأساسي لتطبيق مبادئ الحكامة في الدول النامية هو تحقيق التنمية و لو في حدودها الدنيا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاديات المنهارة لتلك الدول التي غرقت في المديونية نتيجة سوء التدبير و تفشي الفساد بكل مظاهره الشيء الذي أدى بالمؤسسات المالية الدولية من جهة و من جهة أخرى بالدول المقرضة إلى التحفظ على إعادة تمويل البرامج التنموية لتلك الدول إلا فيما يتعلق بإعادة جدولة ديونها السابقة مع اشتراطات هيكلية قاسية، هذا على المستوى القريب، أما على المستوى المتوسط و البعيد فقد كانت الاشتراطات تذهب في اتجاه إصلاح المنظومة الإدارية من خلال تطبيق مبادئ الحكامة التي شكلت الأسس و المعايير لإنقاذ الاقتصاديات الضعيفة من الانهيار.
و قد شكل هذا الهدف في حد ذاته مدخلا لتحقيق غاية أسمى هي الرقي بالمستوى المعيشي للمواطنين من خلال الاهتمام بالبرامج التنموية التي تحقق تنمية بشرية قادرة على الحفاظ على السلم الاجتماعي للدول المعنية، في إطار العلاقة الجدلية بين الاستقرار الاجتماعي و النمو الاقتصادي فكل مستوى من المستويين يكمل الاخر بحيث لا يمكن أن نجد نموا اقتصاديا دون سلم اجتماعي و لا سلم اجتماعي دون نمو اقتصادي، لذلك سعت الدول النامية إلى تحقيق هذه المقاربة و من بينها المغرب الذي انخرط في البعد البشري للتنمية من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ 2005 و قبل ذلك من خلال مبادرات تخليق المرفق العام و انفتاحه على المشاركة المواطنة.

الفقرة الثانية: الدواعي السياسية للحكامة

في ظل التجارب السيئة للأنظمة الفاسدة، و مع توالي الاحباطات انخرطت العديد من الدول الإفريقية خاصة في دوامة من العنف السياسي و الثورات و الانقلابات نتيجة غياب الأفق بالنسبة للفئات المتضررة من السياسات المتعاقبة، فهذه الفئات التي ثارت في وجه الأنظمة الفاسدة بمستويات متفاوتة حملت الشركاء الدوليين المسؤولية عن تدهور الأوضاع في بلدانهم على اعتبار أن الشركاء لم يكن يدفعهم إلا مصالحهم الخاصة مما دفعهم لإغراق الدول النامية بالديون دون أن تكون تلك الديون موجهة لتحقيق الغرض منها، و هو ما ضرب مصداقية المؤسسات المالية الدولية في سعيها لتحقيق التنمية و ليس مراكمة الأرباح على حساب الثروات الوطنية للدول المقترضة.
فشكل ذلك إرهاصات للشركاء المحليين و الدوليين لتبني منظور جديد يسعى إلى تحقيق الأمن و السلام الدوليين من خلال استقرار الأنظمة و هذا لا يتأتى إلى باعتماد مقاربة تشاركية تتيح للمواطنين شكلا من أشكال المشاركة و هذا ما نادت به الحكامة، و في هذا السياق جاء تقرير التنمية البشرية لسنة 2003 ليقول:" إن نجاح أهداف التنمية الألفية، يعتمد جزئيا على البيئة السياسية المحلية، على ما إذا كانت هناك قنوات للمواطنين للمشاركة...".
فمن خلال الديمقراطية التشاركية، و التعاون و التضامن، و الشفافية و الحق في المعلومة، و كذا ربط المسؤولية بالمحاسبة يجد المواطن نفسه أمام قنوات حقيقية للمشاركة في اتخاذ القرار و مراقبة أداء المرافق العامة التي تهدف إلى إشباع حاجاته وفق أولويات موضوعية، و بالتالي يتوفر المناخ السياسي المتسم بالشفافية و المسؤولية و هي عوامل تساعد على تحقيق الرضاء العام و بالتالي الاستقرار السياسي، هذا و بالإضافة إلى كونه غاية المواطنين و المستثمرين، فهو غاية الأنظمة السياسية أيضا التي وعت أن لا مجال لاستمرارها إلى في ظل هذا المناخ السياسي الذي يكفل للجميع الانخراط في العملية التنموية و الاستفادة من ثمراتها.

المبحث الثاني:الإطار القانوني للحكامة

في حقيقة الأمر، منذ ظهور الحكامة كمفهوم لم تتبلور على مستوى النص القانوني، و انحصر دورها كقيمة أخلاقية بداية الأمر، لكن سرعان ما سعت الحكومات المختلفة في العالم إلى وضع قواعد تنظيمية لمؤسساتها و منظماتها تلزمها باعتماد المقاربات التي تؤسس لها الحكامة، و لم يكن المغرب في منأى عن هذا التوجه العام بحيث عمل على دسترتها و تضمين قيمها و مبادئها في مختلف القوانين الحاكمة لمرافقه العامة.
و تأتي هذه الاستجابة انطلاقا من اعتبار الحكامة لا تستقيم إلا في ظل تكامل عمل الدولة و مؤسساتها و القطاع الخاص و المجتمع المدني، من أجل ترسيخ المشاركة و المحاسبة و الشفافية، و لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال نظام متكامل لبلوغ التدبير الرشيد، و هذا رهين بتوفر مجموعة من الشروط تؤدي في المحصلة إلى إعادة النظر في احتكار الحكومة لتدبير الشأن العام، فتوفير الكفايات القانونية و المؤسساتية اللازمة لتسهيل ذلك شكل ضرورة ملحة و هذا ما دفع بالمشرع إلى تقنين الحكامة.

المطلب الأول:المرجعية الدستورية لمبدأ الحكامة

في البداية تجدر الإشارة إلى أن المغرب لم يعرف دسترة للحكامة إلا في ظل دستور 2011، بحيث افتقرت كافة الدساتير بما فيها دستور 1996 إلى التنصيص على مبادئ حاكمة للمرفق العام بما فيها الحكامة، و بالتالي يكون الشعار الذي رفعته حكومة بنكيران يستند إلى القواعد الدستورية بالدرجة الأولى، و هو ما سارت عليه حكومة العثماني من خلال تأكيد هذا الأخير على الاستمرار في نهج سياسة ربط المسؤولية بالمحاسبة كآلية للقضاء على الفساد.

الفقرة الأولى: المبادئ الدستورية المرتبطة بالحكامة

ينص الدستور في تصديره على أن:"المملكة المغربية وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق و القانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد و تقوية مؤسسات حديثة، مرتكزاتها المشاركة و التعددية و الحكامة الجيدة..."
و ينص في الفصل الأول على أنه:"يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط و توازنها و تعاونها، و الديمقراطية المواطنة و التشاركية، و على مبادئ الحكامة الجيدة، و ربط المسؤولية بالمحاسبة."
و لتنزيل ذلك على أرض الواقع سمح الدستور في فصله 13 بإحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية و تفعيلها و تنفيذها و تقييمها، و في الفصل 14 نص على تقديم ملتمسات في مجال التشريع من طرف المواطنين، و تقديم عرائض للسلطات العمومية (الفصل 15) ، و على أن تضع الجماعات الترابية آليات تشاركية للحوار و التشاور لتيسير مساهمة المواطنات و المواطنين و الجمعيات في إعداد برامج التنمية و تتبعها... و تقديم عرائض تهدف إلى إدراج نقطة تدخل في اختصاصات المجالس ضمن جدول أعماله (الفصل 139).
كما تنص الفصول من 154 إلى 158 على مجموعة من المبادئ كالمساواة بين المواطنين في الولوج إلى المرافق العامة، و خضوع هذه الأخيرة لمعايير الجودة و الشفافية و المحاسبة و المسؤولية (ف 154)، و احترام قواعد الحياد و الشفافية و النزاهة من طرف أعوانها (ف 155)، و تلقيها لملاحظات المرتفقين و تظلماتهم و تؤمن تتبعها، و تقديم حساب عن تدبيرها للأموال العمومية (ف 156)، كما تنص على تحديد قواعد الحكامة ضمن ميثاق للمرافق العمومية (ف 157)، و التصريح بالممتلكات (ف 158).

الفقرة الثانية: مقومات الحكامة في دستور المغرب

من أجل تطبيق أمثل للحكامة، نص الدستور المغربي على مجموعة من الآليات منها ما كان قائما و تمت دسترته و منها ما تم إحداثه لأول مرة، و هذه المؤسسات هي:
المجلس الوطني لحقوق الإنسان: مؤسسة وطنية تعددية، تهتم بحقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة والنهوض بها، وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين أفرادًا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال (الفصل 161).
الوسيط: مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين والإسهام في ترسيخ سيادة القانون وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية (الفصل 162)
مجلس الجالية المغربية بالخارج: يتولى على الخصوص إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم، وكذلك المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه (الفصل 163 )
الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز: المحدثة بموجب الفصل 19 من الدستور (والذي ينص على ما يلي: يتمتع الرجل و المرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذلك في الاتفاقيات والمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها. تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، وتحدث لهذه الغاية هيئة للمناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز. وتسهر هذه المؤسسة بصفة خاصة على احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في الفصل المذكور (الفصل 164).
الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري: تتولى السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وذلك في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية وقوانين المملكة (الفصل 165).
مجلس المنافسة: هيئة مستقلة، مكلفة في إطار تنظيم منافسة حرة ومشروعة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، خاصة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار (الفصل 166).
الهيئة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة ومحاربتها: والمحدثة بموجب الفصل 36 من الدستور، وهي مؤسسة تتولى مهام المبادرة و التنسيق وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة. (الفصل 167).
المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحت العلمي: هيئة استشارية، مهمتها إبداء الآراء حول كل السياسات العمومية والقضايا الوطنية التي تهم التربية والتكوين والبحث العلمي، وحول أهداف المرافق العمومية المكلفة بهذه الميادين وسيرها، كما يساهم في تقييم السياسات والبرامج العمومية في هذا المجال (الفصل 168).
المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة: والمحدث بموجب الفصل 32 من الدستور، كمؤسسة تتولى مهمة تأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة وإبداء آراء حول المخططات الوطنية المتعلقة بهذه الميادين وتنشيط النقاش العمومي حول السياسة العمومية في مجال الأسرة وضمان تتبع وإنجاز البرامج الوطنية المقدمة من قبل مختلف القطاعات والهياكل والهيئات المختصة (الفصل 169).
المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوى: المحدث بموجب الفصل 33 من الدستور، ويعتبر هيئة استشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية، وهو عبارة عن مؤسسة مكلفة بدراسة وتتبع المسائل التي تهم هذه الميادين وتقديم اقتراحات حول كل موضوع اقتصادي واجتماعي وثقافي يهم مباشرة النهوض بأوضاع الشباب والعمل الجمعوي وتنمية طاقاتهم الإبداعية وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية بروح المواطنة المسئولة (الفصل 170).
وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، يمكن القول، أن التأطير الدستوري للحكامة المؤسساتية شمل مؤسسات أخرى من قبيل: المحكمة الدستورية، المجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

المطلب الثاني:الحكامة في القوانين المختلفة

في ظل حكومة اليوسفي، لم تكن توجد مرجعية دستورية للحكامة تشرعن لمبادئها التي تؤسس لميثاق حسن تدبير المرفق العام، و بالتالي استندت الحكومة في ذلك الوقت على المبادئ العامة للقانون و على مرجعياتها السياسية و الإيديولوجية لتبرير شعاراتها، غير أن ذلك لم يكن كافيا بطبيعة الحال، فالدولة لا تلتزم في سياساتها العمومية بموجب شعارات بقدر ما تجسد تلك السياسات بقوانين و نصوص تنظيمية، و هذا ما فعلته حكومة اليوسفي التي كانت سباقة إلى خلق آليات للحكامة و بلورة الأرضية التي ستسير عليها الحكومات المتعاقبة، .

الفقرة الأولى:المقومات القانونية لتكريس مبدأ الحكامة

سار المغرب في ظل حكومة اليوسفي على منوال الدول الرائدة في تفعيل مبادئ الحكامة من خلال مجموعة من الإصلاحات نذكر على سبيل المثال:
- القانون رقم 03.01 الذي يلزم الإدارات العمومية بتعليل قراراتها
- إصدار ميثاق حسن تدبير المرفق العام
- إصدار ميثاق حسن سلوك الموظف.
- إحداث ديوان المظالم بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.01.298 بتاريخ 02/12/2001 قبل أن يعمل دستور 2011 على تكريسه تحت اسم مؤسسة الوسيط.
لقد شكلت هذه الإصلاحات منطلقات لتخليق الحياة العامة و من بينها المرفق العام، و قد تعززت الترسانة القانونية بنصوص ترتكز عليها مبادئ الحكامة من بينها القانون رقم 54.06 المتعلق بالتصريح الاجباري بالممتلكات لبعض منتخبي المجالس المحلية و الغرف المهنية و بعض فئات الموظفين أو الأعوان العموميين.
كما اعتمد المغرب على معايير الكفاءة و الاستحقاق في التعيين بالمناصب العليا من خلال القانون التنظيمي رقم 02.12 و المرسوم المتعلق بتطبيق المادتين 4 و 5 من القانون التنظيمي المذكور.
كما عمل على دعم الشفافية و تكافؤ الفرص من خلال منع تضارب المصالح الشخصية مع المهام المزاولة بالإدارة العمومية من خلال مراجعة النظام الأساسي للوظيفة العمومية و منع الجمع بين الأجور و الوظائف.
و فيما يخص الصفقات العمومية و إدارة الأموال العامة فقد سعى المغرب إلى مراجعة مرسوم الصفقات العمومية عدة مرات لإدخال التعديلات الكفيلة بضمان المزيد من الشفافية و تكافؤ الفرص في تمرير الصفقات العمومية.
و في مختلف القطاعات نجد المشرع المغربي قد سعى جاهدا لتعزيز الشفافية في الإدارات العمومية بشأن كل ما يتعلق بالخدمات المقدمة للمرتفق كقطاع البناء (المرسوم المتعلق بضابط البناء)، و الجمارك ( إحداث مرصد لتجميع و دراسة المعلومات و بلورة مقترحات من أجل تعزيز النزاهة و الشفافية في العلاقة بين إدارة الجمارك و الممقاولات)...الخ

الفقرة الثانية:الآليات العقابية لمحاربة الفساد

إن مكافحة الفساد يستلزم و جود منظومة قانونية تجرم أفعاله و تحمي ضحاياه، و تعتبر الآليات العقابية التي نص عليها المشرع المغربي في هذا الصدد دعامة حقيقية لتحقيق الشفافية و المحاسبة و ضمان عدم الإفلات من العقاب في سياق تحقيق أسس الحكامة الجيدة كتعبير عن الإرادة الحكومية المغربية لتخليق المرفق العام.
ففيما يتعلق بالرشوة فقد نص عليها و على عقوبتها ضمن المواد من 248 إلى 256 من القانون الجنائي، و الاختلاس (المادة 119 من القانون الجنائي)، استغلال النفوذ (م 250 ق.ج)، جريمة الغدر (م 243 ق.ج)...الخ
كما قام المشرع بتعديل المادة 6 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة يقضي بإحداث قضاء متخصص في مكافحة جرائم الأموال عن طريق إحداث أقسام للبت في جرائم الفساد على مستوى محاكم الاستئناف، و شجع على تفعيل آليات كشف جرائم الفساد و التبليغ عليها مثل حماية الشهود و المبلغين و الخبراء، و إلزام مؤسسات الائتمان و الهيئات الخاضعة لمراقبة بنك المغرب بضرورة اليقظة فيما يتعلق بالعمليات التي يكون الداعي الاقتصادي إليها أو طابعها المشروع غير واضح...
هذا و دون أن ننسى اهتمام المغرب بالتوعية و نشر ثقافة مكافحة الفساد من خلال إدماج مفاهيم مكافحة الرشوة في مناهج التعليم الأساسي و الثانوي و الجامعي و توجيه البحث العلمي في هذا المجال، إضافة إلى تعزيز التواصل و المشاركة المجتمعية في جهود الوقاية من الرشوة و محاربتها و تشجيع الشراكات مع منظمات المجتمع المدني و تفعيل دور وسائل الاعلام.
خاتمة
لقد ترسخت في تاريخ تطور المرفق العام مبادئ حاكمة له تهدف إلى ضمان تحقيق أهدافه التي أنشأ من أجلها، كالمساواة و الاستمرارية و القابلية للتطوير و التغيير، غير أن المرفق العام في سياق تفاعله مع الأوضاع الدولية و الداخلية بدأ يكتسب مبادئ حاكمة حديثة إن صح التعبير تهدف في الأساس إلى انتشاله من براثين الفساد التي تنخره و تبتعد به عن مسار تحقيق أهدافه المرتبطة أولا و أخيرا بالمصلحة العامة.
و حيث أن المرفق العام هو تنظيم يعمل في إطار قيامه بالمهام المنوطة به، بتدبير أموال عمومية فقد أصبح مرتعا للراغبين في الاغتناء على حساب المصلحة العامة بحيث أبدعوا أشكال كثيرة لنهب المال العام مما أدى إلى تأزيم دور المرفق العام و عرقلة البرامج التنموية الضرورية لتقدم الوطن الشيء الذي جعل من شعار التخليق و محاربة الفساد إطارا عاما يحمل في طياته إلزامية الحد من الظواهر السلبية الذي كادت تؤدي بالمغرب إلى سكتة قلبية كما وصفها الملك الراحل الحسن الثاني في مقدمات تأسيسه لمسار الإنقاذ من خلال مقاربة تشاركية تتيح تشكيل حكومة التناوب التوافقي برئاسة السيد عبد الرحمن اليوسفي الذي تخرج من مدرسة سياسية طالما أطر خطابها شعارات من قبيل تخليق الحياة العامة و القضاء على كل مظاهر الفساد و القطع مع اقتصاد الريع...الخ.
و بدا جليا إصرار حكومة اليوسفي و الحكومات المتعاقبة على إحكام المرفق العام بقبضة مبادئ الحكامة من شفافية و نزاهة و مشروعية و ربط المسؤولية بالمحاسبة، و ذلك من خلال مبادرات جادة عززتها نصوص دستورية و قانونية و أرضية خصبة لاستلهام تلك المبادئ، لكن يبقى السؤال المعضلة هو هل استطاعت كل تلك التدابير انتشال المغرب من مأزقه و هل استطاع المرفق العام في ظل تلك الإصلاحات من المرور من صراط الأزمة بسلام و العبور بالوطن إلى بر الأمان؟ إن التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية خاصة تلك التي تعنى بالتنمية البشرية تقدم مؤشرات محبطة لتجربة المغرب في هذا المجال، فالمغرب لا يزال يقبع في مؤخرة قائمة مؤشر التنمية و طيلة هذه السنين لم يتقدم إلى نقطتين فقط ليحتل المركز 123 متأخرا على العديد من الدول من بينها دول الجوار المغاربي.
إن هذه المحصلة لا يمكن إيعازها إلى الاختيارات التي انتهجها المغرب كون مثل هذه الاختيارات حققت قفزات نوعية في بلدان أخرى، و إنما ترجع مؤشرات الفشل إلى سوء تطبيق المبادئ الحاكمة للمرفق العام على المستوى الواقعي ، و لعل حصيلة التقارير الرقابية الصادرة عن المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات رغم محدودية المرافق التي خضعت للرقابة و التدقيق لدليل على أن المرفق العام المغربي لا يزال أمامه الكثير لاستلهام الأسس الحديثة الكفيلة بالقطع مع الفساد الإداري و المالي من طرف موارده البشرية و هذا لن يتأتى حسب رأينا إلا باعتماد برامج للتكوين المستمر من جهة، و بتشديد التدابير الزجرية من جهة أخرى كضمان لمصداقية الدولة في رفعها لشعار ربط المسؤولية بالمحاسبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق